فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{أَرَءيْتَ الذي يُكَذّبُ بالدين}
استفهامٌ أريدَ بهِ تشويقُ السامعِ إلى معرفةِ مَنْ سيقَ لَهُ الكلاَمُ، والتعجيبُ منْهُ. والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: لكُلِّ عاقلٍ والرؤيةُ بمَعْنى المَعْرفةِ وقرئ أرأيتَكَ بزيادةِ حَرْفِ الخطابِ والفاءُ في قوله تعالى: {فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} جوابُ شرطٍ محذوفٍ على أنَّ ذلكَ مُبتدأٌ والموصولُ خبرُهُ والمَعْنى هَلْ عرفتَ الذي يكذبُ بالجزاءِ أو بالإسلامِ إنْ لَمْ تعرفْهُ أو إنْ أردتَ أنْ تعرفَهُ فهُوَ الذي يدفعُ اليتيم دفعًا عنيفًا ويزجرُهُ زَجْرًا قَبيحًا ووضعُ اسمِ الإشارةِ المتعرضِ لوصفِ المشارِ إليهِ موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحكمِ والتنبيهِ بمَا فيهِ من مَعْنى البُعدِ على بُعْدِ منزلتِهِ في الشرِّ والفسادِ.
قيلَ: هُوَ أبُو جهلٍ كانَ وصيًا ليتيمٍ فأتاهُ عُريانًا يسألُهُ من مالِ نفسِه فدفعَهُ دفعًا شنيعًا، وقيلَ: أبُو سفيانَ نحرَ جزورًا فسألَهُ يتيمٌ لحمًا فقرعَهُ بعصاهُ، وقيلَ: هُوَ الوليدُ بنُ المُغِيرَةِ وقيلَ: هُوَ العَاصُ بنُ وائلٍ السَّهْمِيُّ، وقيلَ: هُوَ رجُلٌ بخيلٌ مِنَ المنافقينَ، وقيلَ: الموصولُ على عمومِهِ. وقرئ يَدَعُ اليتيم أيْ يتركُه ويجفُوهُ {وَلاَ يَحُضُّ} أيْ أهلَهُ وغيرَهُم مِنَ الموسرينَ {على طَعَامِ المسكين} وإذَا كانَ حالُ من تركَ حَثَّ غيرَه على ما ذُكرَ فمَا ظنُّكَ بحالِ من تركَ ذلكَ معَ القُدرةِ عليهِ. والفاءُ في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ} الخ، إما لربطِ مَا بعدَهَا بشرطٍ محذوفٍ كأنَّه قيلَ: إذَا كانَ مَا ذُكِرَ من عدَمِ المُبالاةِ باليتيم والمسكينِ مِنْ دَلاَئلِ التكذيبِ بالدين وموجباتِ الذمِّ والتوبيخِ فويلٌ {لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} غافلونَ غيرُ مبالينَ بهَا {الذين هُمْ يُرَاءونَ} أيْ يرونَ النَّاسَ أعمالَهُم ليروهُمْ الثناءَ عَلَيهَا {وَيَمْنَعُونَ الماعون} أي الزكاةَ أو مَا يُتعَاورُ عادةً فإنَّ عدمَ المبالاةِ باليتيم والمسكينِ حيثُ كانَ كمَا ذُكِرَ فعدمُ المبالاةِ بالصلاةِ التي هي عمادُ الدينِ والرياءُ الذي هُوَ شعبةٌ منَ الكفرِ ومنعُ الزكاةِ التي هيَ قنطرةُ الإسلامِ وسوءُ المعاملةِ مَعَ الخلق أحقُّ بذلكَ وإمَّا لترتيبِ الدعاءِ عليهم بالويلِ على ما ذكرَ من قبائحِهم ووضعُ المصلينَ موضعَ ضميرِهم ليتوسلَ بذلكَ إلى بيانِ أنَّ لهُم قبائحَ أخَر غيرَ ما ذكرَ. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَرَءيْتَ الذي يُكَذّبُ بالدين}
استفهام أريد بن تشويق السامع إلى تعرف المكذب وإن ذلك مما يجب على المتدين ليحترز عنه وعن فعله وفيه أيضًا تعجيب منه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له والرؤية بمعنى المعرفة المتعدية لواحد.
وقال الحوفي يجوز أن تكون بصرية وعلى الوجهين يجوز أن يتجوز بذلك عن الاخبار فيكون المراد بأرأيت أخبرني وحينئذ نكون متعدية لاثنين أو لهما الموصول وثانيهما محذوف تقديره من هو أو أليس مستحقًا للعذاب والقول بأنه لا تكون الرؤية المتجوز بها إلا بصرية فيه نظر وكذا إطلاق القول بأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية إذ لا مانع من ذلك بعد التجوز فلا يرجح كونها علمية قراءة عبد الله {أرأيتك} بكاف الخطاب المزيدة لتأكيد التاء.
والدين الجزاء وهو أحد معانيه ومنه كما تدين تدان وفي معناه قول مجاهد الحساب أو الإسلام كما هو الأشهر ولعله مراد من فسره بالقرآن وكذا من فسره كابن عباس بحكم الله عز وجل.
وقرأ الكسائي {أرأيت} بحذف الهمزة كأنه حمل الماضي في حذف همزته على مضارعه المطرد فيه حذفها وهذا كما ألحق تعد بيعد في الإعلال ولعل تصدير الفعل هنا بهمزة الاستفهام سهل أمر الحذف فيه لمشابهته للفظ المضارع المبدوء بالهمزة ومن هنا كانت هذه القراءة أقوى توجيهًا مما في قوله:
صاح هل رأيت أو سمعت براع ** رد في الضرع ما قرى في العلاب

وقيل ألحق بعد همزة الاستفهام باري ماضي الأفعال لشدة مشابهته به وعدم التفاوت إلا بفتحة هي لخفتها في حكم السكون وليس بذاك وإن زعم أنه الأوجه.
والفاء في قوله تعالى: {فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} قيل للسببية وما بعدها مسبب عن التشويق الذي دل عليه الكلام السابق وقيل واقعة في جواب شرط محذوف على أن ذلك مبتدأ والموصول خبره والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء أو بالإسلام إن لم تعرفه فذلك الذي يكذب بذلك هو الذي يدع اليتيم أي يدفعه دفعًا عنيفًا ويزجره زجرًا قبيحًا ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للدلالة على التحقير وقيل للإشعار بعلة الحكم أيضًا وفي الإتيان بالموصول من الدلالة على تحقق الصلة ما لا يخف.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن وأبو رجاء واليماني {يدع} بالتخفيف أي يترك اليتيم لا يحسن إليه ويجفوه.
{وَلاَ يَحُضُّ} أي ولا يبعث أحدا من أهله وغيرهم من الموسرين {على طَعَامِ المسكين} أي بذل طعام المسكين وهو ما يتناول من الغذاء والتعبير بالطعام دون الإطعام مع احتياجه لتقدير المضاف كما أشرنا إليه للإشعار بأن المسكين كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله تعالى: {فِي أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] فهو بيان لشدة الاستحقاق وفيه إشارة للنهي عن الامتنان وقيل الطعام هنا بمعنى الإطعام وكلام الراغب محتمل لذلك فلا يحتاج إلى تقدير لمضاف.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {ولا يحاض} مضارع حاضضت وهذه الجملة عطف على جملة الصلة داخلة معها في حيز التعريف للمكذب فيكون سبحانه وتعالى قد جعل علامته الإقدام على إيذاء الضعيف وعدم بذل المعروف على معنى أن ذلك من شأنه ولوازم جنسه.
{فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ}
أي غافلون غير مبالين بها حتى تفوتهم بالكلية أو يخرج وقتها أولًا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف ولكن ينقرونها نقرا ولا يخشعون وينجدون فيها ويتهمون وفي كل واد من الأفكار الغير المناسبة لها يهيمون فيسلم أحدهم منها ولا يدري ما قرأ فيها إلى غير ذلك مما يدل على قلة المبالاة بها.
وللسلف أقوال كثيرة في المراد بهذا السهو ولعل كل ذلك من باب التمثيل.
فعن أبي العالية هو الالتفات عن اليمين واليسار وعن قتادة عدم مبالاة المرء أصلي أم لم يصل.
وعن ابن عباس وجماعة تأخيرها عن وقتها وفيه حديث أخرجه غير واحد عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا وقال الحاكم والبيهقي وقفه أصح.
وعن أبي العالية هو أن لا يدري المرء عن كم انصرف عن شفع أو عن وتر وفسر بعضهم السهو عنها بتركها وقال المراد بالمصلين المتسمون بسمة أهل الصلاة إن أريد بالترك الترك رأسًا وعدم الفعل بالكلية أو المصلون في الجملة إن أريد بالترك الترك أحيانًا.
{الذين هُمْ} الناس فيعملون حيث يروا الناس ويرونهم طلبًا للثناء عليهم.
{وَيَمْنَعُونَ الماعون} أي الزكاة كما جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وابنه محمد بن الحنفية وابن عباس وابن عمر وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة ومنه قول الراعي:
أخليفة الرحمن أنا معشر ** حنفاء نسجد بكرة وأصيلًا

عرب نرى لله من أموالنا ** حق الزكاة منزلًا تنزيلًا

قوم على الإسلام لما يمنعوا ** ما عونهم ويضيعوا التهليلا

وعن محمد بن كعب والكلبي المعروف كله.
وأخرج جماعة عن ابن مسعود تفسيره بما يعاوره الناس بينهم من القدر والدلو والفاس ونحوها من متاع البيت وجاء ذلك عن ابن عباس أيضًا في خبر رواه عنه الضياء في المختارة والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم ورووا فيه عدة أحاديث مرفوعة ومنع ذلك قد يكون محظورًا في الشريعة كما إذا استعير عن اضطرار وقبيحًا في المروءة كما إذا استعير في غير حال الضرورة وهو على ما أخرج ابن أبي شيبة عن الزهري المال بلسان قريش.
وقال أبو عبيدة والزجاج والمبرد هو في الجاهلية كل ما فيه منفعة من قليل أو كثير وأريد به في الإسلام الطاعة.
واختلف في أصله فقال قطرب أصله فاعول من المعن وهو الشيء القليل وقالوا ماله معنة أي شيء قليل وقيل أصله معونة والألف عوض من الهاء فوزنه مفعل في الأصل كمكرم فتكون الميم زائدة ووزنه بعد زيادة الألف عوضًا ما فعل وقيل هو اسم مفعول من أعان يعين وأصله معوون فقلبت فصارت عينه مكان فائه فصار موعون ثم قلبت الواو ألفًا فصار ماعونًا فوزنه معفول بتقديم العين على الفاء.
والفاء في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ} إلخ جزائية والكلام ترق من ذلك المعرف إلى معرف أقوى أي إذا كان دع اليتيم والحض بهذه المثابة فما بال المصلي الذي هو ساه عن صلاته التي هي عماد الدين والفارق بين الإيمان والكفر مرتكب للرياء في أعماله الذي هو شعبة من الشرك ومانع للزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام أو مانع لإعارة الشيء الذي تعارف الناس إعارته فضلًا عن إخراج الزكاة من ماله فذاك العلم على التكذيب الذي لا يخفى والمعرف له الذي لا يوفي والغرض التغليظ في أمر هذه الرذائل التي ابتلى بها كثير من الناس وأنها لما كانت من سماء المكذب بالدين كان على المؤمن المعتقد له أن يبعد عنها بمراحل ويتبين أن أم كل معصية التكذيب بالدين والمراد بالمكذب على هذا الجنس والإشارة لا تمنع منه كما لا يخفى.
وقيل هو أبو جهل وكان وصيًا ليتيم فأتاه عريانًا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعًا شنيعًا.
وقال ابن جريج هو أبو سفاين نحر جزورًا فسأله يتيم لحمًا فقرعه بعصاه.
وقيل الوليد بن المغيرة.
وقيل العاص بن وائل وقيل عمرو بن عائد.
وقيل منافق بخيل.
وعلي جميع هذه الأقوال يكون معينًا وحينئذ فالقول بأن الساهين عن الصلاة المرائين أيضًا معرف.
قال (صاحب الكشف) غير ملائم بل يكون شبه استطراد مستفاد من الوصف المعرف أعني دع اليتيم على معنى أن الدع إذا كان حاله أنه علم المكذب فما حال السهو عن الصلاة وما عطف عليه وهما أشد من ذلك وأشد وإنما جعل شبه استطراد على ما قال لأن الكلام في التكذيب لا في التحذير من الدع بالأصالة والمراد الجنس الصادق بالجمع وكون ذلك تكلفًا واضحًا كما قيل غير واضح فكأنه قيل أخبرني ما تقول فيمن يكذبون بالدين وفيمن يؤذون اليتيم أحسن حالهم وما يصنعون أم قبيح والغرض بت القول بالقبح على أسلوب قوله تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 61] ثم قيل {فويل للمصلين} على معنى إذا علم أن حالهم قبيح فويل لهم فوضع المصلين موضع الضمير دلالة على أنهم مع الاتصاف بالتكذيب متصفون بهذه الأشياء أيضًا وجعل بعضهم الفاء في {فويل} على العطف المذكور للسببية.
وهذا الوجه يقتضي اتحاد المصلين والمكذبين وعليه قيل المراد بهم المنافقون بل روى إطلاق القول بأنهم المرادون عن ابن عباس ومجاهد والإمام مالك.
وقال في (البحر) يدل عليه الذين هم يراؤن ويصح أن يراد بالمصلين على الاتحاد المكلفون بالصلاة ولو كفارًا غير منافقين وبسهوهم عن الصلاة تركه إياها بالكلية ويلتزم القول بأن الكفار مكلفون بالفروع مطلقًا.
واعترض أبو حيان ذلك الوجه بأن التركيب عليه تركيب غريب وهو كقولك أكرمت الذي يزورني فذاك الذي يحسن إلى والمتبادر إلى الذهن منه أن {فذلك} مرفوع بالابتداء وعلى تقدير النصب بالعطف يكون التقدير أكرمت الذي يزورني فأكرمت ذلك الذي يحسن إلى واسم الإشارة فيه غير متمكن تمكن ما هو فصيح إذ لا حاجة إليه بل الفصيح أكرمت الذي يزورني فالذي يحسن إلى أو أكرمت الذي يزورني فيحسن إلى وقيل إن اسم الإشارة هنا مقحم للإشارة إلى بعد المنزلة في الشر والفساد فتأمل.
وجوز أيضًا أن يكون العطف عطف ذات على ذات فالاستخبار عن حال المكذبين وحال الداعين أحسن هو أم قبيح على قياس ما مر وتعقبه في الكشف بأنه لا يلائم المقام رجوع الضمير إلى الطائفتين حتى يوضع موضع المصلين فافهم.
وقرأ ابن إسحاق والأشهب {يرؤون} بالقصر وتشديد الهمزة وفي رواية أخرى عن ابن إسحاق أنه قرأ بالقصر وترك التشديد والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الشوكاني:

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدين (1)}
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له.
والاستفهام لقصد التعجيب من حال من يكذب بالدين.
والرؤية: بمعنى المعرفة، والدين: الجزاء والحساب في الآخرة.
قيل: وفي الكلام حذف، والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين أمصيب هو أم مخطئ.
قال مقاتل، والكلبي: نزلت في العاص بن وائل السهمي.
وقال السديّ: في الوليد بن المغيرة، وقال الضحاك: في عمرو بن عائذ، وقال ابن جريج في أبي سفيان، وقيل: في رجل من المنافقين.
قرأ الجمهور: {أرأيت} بإثبات الهمزة الثانية.
وقرأ الكسائي بإسقاطها، قال الزجاج: لا يقال في (رأيت): ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفًا.
وقيل الرؤية: هي البصرية، فيتعدّى إلى مفعول واحد، وهو الموصول، أي: أبصرت المكذب.
وقيل: إنها بمعنى أخبرني، فيتعدى إلى اثنين.
الثاني محذوف، أي من هو؟
{فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} الفاء جواب شرط مقدّر، أي إن تأملته أو طلبته، فذلك الذي يدعّ اليتيم، ويجوز أن تكون عاطفة على الذي يكذب: إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة.
فعلى الأوّل يكون اسم الإشارة مبتدأ، وخبره الموصول بعده، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: فهو ذلك، والموصول صفته.
وعلى الثاني يكون في محل نصب لعطفه على الموصول الذي هو في محل نصب.
ومعنى {يدعّ}: يدفع دفعًا بعنف، وجفوة، أي: يدفع اليتيم عن حقه دفعًا شديدًا، ومنه قوله سبحانه: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] وقد قدّمنا أنهم كانوا لا يورّثون النساء والصبيان {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} أي: لا يحضّ نفسه، ولا أهله، ولا غيرهم على ذلك بخلًا بالمال، أو تكذيبًا بالجزاء، وهو مثل قوله في سورة الحاقة: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} [الحاقة: 34].
{فَوَيْلٌ} يومئذ {لّلْمُصَلّينَ} الفاء جواب لشرط محذوف كأنه قيل: إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين، فويل للمصلين {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} أي: عذاب لهم، أو هلاك، أو واد في جهنم لهم، كما سبق الخلاف في معنى الويل، ومعنى ساهون: غافلون غير مبالين بها، ويجوز أن تكون الفاء؛ لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذكر من قبائحهم، ووضع المصلين موضع ضميرهم للتوصل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر.
قال الواحدي: نزلت في المنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثوابًا إن صلوا، ولا يخافون عليها عقابًا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا، وهو معنى قوله: {الذين هُمْ يُرَاءونَ} أي: يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراءون الناس بكل ما عملوه من أعمال البرّ؛ ليثنوا عليهم.
قال النخعي: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا، وهكذا ملتفتًا.
وقال قطرب: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله.
وقرأ ابن مسعود الذين هم عن صلاتهم لاهون.
{وَيَمْنَعُونَ الماعون}.
قال أكثر المفسرين: {الماعون}: اسم لما يتعاوزه الناس بينهم: من الدلو، والفأس، والقدر.
وما لا يمنع كالماء، والملح.
وقيل هو الزكاة، أي: يمنعون زكاة أموالهم.
وقال الزجاج، وأبو عبيد، والمبرّد: الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة حتى الفأس، والدلو، والقدر، والقداحة وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير، وأنشدوا قول الأعشى:
بأجود منه بماعونه ** إذا ما سماؤهم لم تغم

قال الزجاج، وأبو عبيد، والمبرّد أيضًا: والماعون في الإسلام: الطاعة والزكاة، وأنشدوا قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر ** حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله من أموالنا ** حقّ الزكاة منزلا تنزيلا

قوم على الإسلام لما يمنعوا ** ماعونهم ويضيعوا التهليلا

وقيل: {الماعون} الماء.
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون الماء، وأنشدني:
تمجّ صبيرة الماعون صبا

والصبيرة: السحاب.
وقيل: الماعون: هو الحق على العبد على العموم.
وقيل: هو المستغلّ من منافع الأموال، مأخوذ من المعن، وهو القليل.
قال قطرب: أصل الماعون من القلة، والمعن: الشيء القليل، فسمى الله الصدقة والزكاة، ونحو ذلك من المعروف ماعونًا؛ لأنه قليل من كثير.
وقيل: هو ما لا يبخل به كالماء، والملح، والنار.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {أَرَءيْتَ الذي يُكَذّبُ بالدين} قال: يكذب بحكم الله.
{فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} قال: يدفعه عن حقه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عنه {فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} قال: هم المنافقون يراءون الناس بصلاتهم اذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارية بغضًا لهم، وهي الماعون.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضًا: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} قال: هم: المنافقون يتركون الصلاة في السرّ، ويصلون في العلانية.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبيّ: أرأيت قول الله: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} أينا لا يسهو؟ أينا لا يحدّث نفسه؟ قال: إنه ليس ذلك، إنه إضاعة الوقت.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} قال:«هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها» قال الحاكم، والبيهقي: الموقوف أصح.
قال ابن كثير: وهذا يعني الموقوف أصح إسنادًا.
قال: وقد ضعف البيهقي رفعه وصحّح وقفه، وكذلك الحاكم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي برزة الأسلمي قال: لما نزلت هذه الآية: {الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، هذه الآية خير لكم من أن يعطى كلّ رجل منكم جميع الدنيا، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته، وإن تركها لم يخف ربه» وفي إسناده جابر الجعفي، وهو ضعيف، وشيخه مبهم لم يسمّ.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، والبيهقي في سننه من طرق عن ابن مسعود قال: كنا نعدّ الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو، والقدر، والفأس، والميزان، وما تتعاطون بينكم.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان المسلمون يستعيرون من المنافقين القدر، والفأس، وشبهه، فيمنعونهم، فأنزل الله: {وَيَمْنَعُونَ الماعون}.
وأخرج أبو نعيم، والديلمي، وابن عساكر عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الآية قال: «ما تعاون الناس بينهم الفأس، والقدر، والدلو، وأشباهه» وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن قرّة بن دعموص النميري: أنهم وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله ما تعهد إلينا؟ قال: «لا تمنعوا الماعون» قالوا: وما الماعون؟ قال: «في الحجر، والحديدة، وفي الماء» قالوا: فأيّ الحديدة؟ قال: «قدوركم النحاس، وحديد الفأس الذي تمتهنون به» قالوا: وما الحجر؟ قال: «قدوركم الحجارة» قال ابن كثير: غريب جدًا، ورفعه منكر، وفي إسناده من لا يعرف.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن سعيد بن عياض عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: {الماعون}: الفأس، والقدر، والدلو.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي، والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس في الآية قال: عارية متاع البيت.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال: الماعون الزكاة المفروضة {يُرَاءونَ} بصلاتهم {وَيَمْنَعُونَ} زكاتهم. اهـ.